عن عجز الثقة وفائض الأزمات
الاقتصاد الأميركي يعاني من ركود. ولكن أرقام سوق العمل تؤكد أن الاقتصاد الأميركي ما زال متمتعاً بمتانة تجعله في وضع نسبي أفضل من الاقتصادات الأوروبية على سبيل المثال، حيث دخل بعضها في فخ الركود بمعدلات نمو سلبية. وعملياً في الأجل القصير فإن المساند لقوة الدولار هو ارتفاع العائد عليه واعتقاد الأسواق أن الاقتصاد المصدر له أكبر قدرة على التعامل مع التحديات التضخمية المحلية والعالمية. وعليك أن تعلم أن قوة الدولار ليست في صالح الاقتصاد العالمي عموماً والاقتصادات النامية خصوصاً لما يصاحبها من تقلب في التدفقات المالية وزيادة مشكلات المديونية الخارجية.
وبعد حين سيتعرض الاقتصاد الأكبر عالمياً لتحديات تتعلق بقدرة قطاعاته الإنتاجية على المنافسة، وكذلك اعتبارات التحوط المكلفة ضد ردود الفعل المتباينة في سياسات سعر الصرف والفائدة ونظم إدارة الاحتياطي. ولعلك تتساءل ما الذي ينبغي عمله في البلدان النامية حيال تقلبات سعر الصرف عالمياً، فأذكرك بما تعلمته من المبادئ بأن تتمسك بأصول الاقتصاد لا قشوره، وأسباب تقدمه وتخلفه لا أعراضها، وألا تكون كبحار حائر في قارب تكاد تعصف به الرياح والأمواج العاتية فيترك القارب ومن عليه وما عليه محاولاً تثبيت أحد المجاديف ومنعه من الحركة هاتفاً بإنجاز النصر وهو موشك على هلاك محقق.
والمحظور الثالث في قائمة روزلنج هو الحرب العالمية، صحيح لا توجد حرب عالمية بالمعنى المفهوم لكن الحرب الدائرة في أوكرانيا أسفرت عن ضحايا أبرياء وأثقلت كاهل الاقتصاد العالمي المنهك أصلاً. وألقت الحرب بظلال كئيبة على اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة، فعادت لغة التراشق بالتهديدات بعد غياب في غياهب الحرب الباردة. وكرر الأمين العام للأمم المتحدة كلمات مفعمة بالحسرة والحزن والغضب عن الوضع السياسي الدولي وما آل إليه بسبب الحرب وتلويح البعض باستخدام أسلحة أشد فتكاً ومضي البعض الآخر في استدعاء صراعاتهم القديمة لعلهم يحتفون بها بحماقتهم بحروب جديدة. ويؤكد حالة عجز الثقة هذه استمرار توترات جيوسياسية واستمراء العمل بطريقة الكيل بكيالين، فأمسى العالم يعاني من عجز في الثقة سياسياً وفائض في الأزمات اقتصادياً.
والمحظور الرابع هو تغير المناخ وتأثيراته الضارة على حياة الناس وأسباب معيشتهم وتهديد سلامة الأرض وما عليها. وقد صدر كتاب روزلنج بعد عامين ونيف من اتفاق باريس لعام 2015، واليوم بعد حوالي 7 أعوام من هذا الاتفاق الملزم لسنا على المسار السليم بعد لاستنقاذ الأرض مما فعله بعض البشر من ضرر بالمناخ بانبعاثات متراكمة. ويحتاج العمل المناخي إلى دفعة كبرى في قمة شرم الشيخ المقبلة حتى يوضع ملف التخفيف على معجلات تحفظ حرارة الأرض تحت 1.5 درجة فوق متوسطاتها مع بداية الثورة الصناعية الأولى، كما يحتاج ملف التكيف إلى إدراك أكبر لخطورته، كما يتطلب ملف الأضرار والخسائر تفعيلاً له من مستوى يقترب من العدم، ويحتاج هذا كله لعلاج ملف تمويل العمل المناخي من قصور موارده وقلة كفاءة آلياته وعدم عدالته.
أما عن المحظور الخامس فهو ذاته الذي احتفى روزلنج في كتابه بانخفاضه على مدار عقدين تقريباً، فقد شهد ارتفاعات في أعداد من يعانون من الفقر المدقع، بسبب تداعيات الجائحة ثم الحرب الأوكرانية. فاتجه خط الفقر المدقع إلى الارتفاع لأول مرة منذ أواخر التسعينات، فبدلاً من أن يصل عدد الفقراء إلى 581 مليون إنسان على النحو الذي كان مقدراً لعام 2022 ارتفع الرقم إلى 677 مليوناً، بما يخفض احتمالات تحقيق الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة وهو القضاء على الفقر المدقع بحلول عام 2030، ويسبب بدوره مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية ليس أكثرها خطورة الهجرة غير الشرعية.
لم يكن روزلنج صاحب نبوءة أو مالكاً لبلورة سحرية مزعومة، فالرجل أمضى حياته ينادي بنشدان الحقيقة ونبذ الخرافة وساق هذه المحظورات الخمسة داعياً للتصدي لها. وذكر تحديداً أن انتشار الأوبئة والأزمات المالية والحروب العالمية من الصعب التكهن بها أو التنبؤ بزمن حدوثها لأنها شديدة التعقيد. أما تغيرات المناخ وحالات الفقر المدقع فقد رأيناها رأي العين ونعلم كيفية مواجهتها، وأن السبيل لعلاجها هو التعاون الدولي. ولعل هذا من أسباب اتهامه بالتفاؤل الشديد لفرط ثقته بإمكانية التعاون الدولي الذي من شأنه حتماً أن يزيل آثار عدوان البشر على المناخ والطبيعة وعلى أنفسهم ولكن هذا التعاون المأمول لا يتحقق إلا بإرادة سياسية.
لعلك صديقي العزيز قد ازددت اهتماماً بأعمال هانز روزلنج، وقد تبدأ بمشاهدة محاضرته الشهيرة في سلسلة تيد أو غيرها مما هو متاح على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وأنت أكثر دراية بها مني. وختاماً؛ لك ولعالمنا أطيب الدعوات بالسلام!
نقلا عن الشرق الأوسط